كتبت علياء الهواري
بينما تواصل الحكومة الإسرائيلية الترويج لما تسميه “المرحلة الثانية من النصر” في غزة، تتسع في الداخل الإسرائيلي موجة احتجاجات غير مسبوقة تكشف أن الحرب التي أشعلتها تل أبيب خارج حدودها بدأت تشتعل داخلها أيضًا — حرب من نوع آخر، بين الشارع والسلطة، وبين الواقع والدعاية.
فمن تل أبيب إلى حيفا مرورًا بجامعات القدس وبئر السبع، تتصاعد أصوات الغضب ضد إدارة الحرب، في مشهد بات يهدد “الجبهة الداخلية” التي طالما اعتبرتها إسرائيل السلاح الأهم في أوقات الصراع. لكن يبدو أن هذا السلاح الآن يتآكل، وأن المجتمع الإسرائيلي يدخل مرحلة انقسام قد تكون أخطر من الحرب نفسها.
منذ السابع من أكتوبر، روّجت إسرائيل لصورة “الجبهة الداخلية الموحدة” خلف جيشها، لكن بعد عامٍ تقريبًا من العمليات في غزة، بدأت هذه الجبهة تتفكك قطعةً قطعة.
فقد خرج آلاف الإسرائيليين في مظاهرات غاضبة تطالب باستقالة نتنياهو وفتح تحقيق في “الإخفاقات الأمنية والسياسية” التي سبقت الحرب وأدارتها.
ما يميز هذه الموجة أنها لم تعد حكرًا على المعارضين التقليديين، بل امتدت إلى جنود احتياط وضباط سابقين وطلبة جامعات، وحتى عائلات قتلى الحرب الذين حملوا صور أبنائهم وهتفوا: “دم أبنائنا ليس دعاية انتخابية.”
في جامعة تل أبيب، رفعت مجموعة من الطلبة لافتات تقول: “أوقفوا الحرب.. أنقذوا ما تبقى من الدولة.”
وفي المقابل، تعرّضت المظاهرة لهجوم من مجموعات يمينية مؤيدة للحكومة، ما كشف عمق الشرخ الاجتماعي والسياسي داخل إسرائيل.
جهاز الأمن الداخلي الإسرائيلي (الشاباك) رفع في الأسابيع الأخيرة تقارير تحذّر من أن استمرار الاحتجاجات واتساعها قد يؤدي إلى “فقدان السيطرة في المدن الكبرى”، خاصة في ظل الغضب الشعبي من ارتفاع الأسعار وتدهور الأوضاع الاقتصادية بعد الحرب.
لكن مكتب رئيس الوزراء تجاهل التحذيرات، واعتبرها “محاولات لتسييس الأزمة”، فيما أكدت مصادر أمنية لصحيفة “يديعوت أحرونوت” أن الوضع الداخلي أكثر خطورة مما يعلنه الإعلام الرسمي.
وأضاف مصدر أمني: “إسرائيل تواجه اليوم خطر الانهيار من الداخل أكثر من خطر الصواريخ من الخارج.”
يقول محللون إسرائيليون إن الانقسام الحزبي والاحتقان الاجتماعي بلغ مستويات لم تشهدها إسرائيل منذ حرب لبنان الثانية، وأن الجبهة الداخلية لم تعد موحدة خلف الجيش كما كانت من قبل.
الاحتجاجات الأخيرة لم تكن فقط سياسية، بل إنسانية في جوهرها.
عائلات الأسرى والمفقودين نظمت مسيرات أمام مكتب نتنياهو تطالب بـ”صفقة تبادل عاجلة” بدلًا من استمرار الحرب دون نتائج.
وفي الوقت نفسه، أطلق جنود احتياط سابقون حملة على وسائل التواصل بعنوان: “لسنا وقودًا لحروب سياسية.”
كما أصدرت مجموعة من الأكاديميين في جامعة بن غوريون بيانًا نادرًا قالت فيه إن “السياسة الحالية تُعرّض مستقبل إسرائيل الأخلاقي والسياسي للانهيار”، داعين إلى إيقاف الحرب والبدء في حوار وطني شامل.
اللافت أن هذه الأصوات لم تأتِ من المعارضة فقط، بل من داخل مؤسسات الدولة نفسها، ما يعكس تآكل ثقة الإسرائيليين في قيادتهم.
تسريبات من داخل الجيش الإسرائيلي كشفت أن قادة ميدانيين يشعرون بالإحباط من تزايد الانقسام الشعبي والسياسي، معتبرين أن “كل عملية في غزة تُقابل بانقسام داخلي يضعف الدعم للجنود”.
وقال ضابط كبير في حديث لقناة 13 العبرية: “لا يمكن أن نواصل الحرب بينما يتقاتل السياسيون في الكنيست، ويتظاهر الناس في الشوارع.”
تؤكد هذه الحالة أن الجيش لم يعد بمنأى عن الاستقطاب السياسي، بل أصبح جزءًا منه.
فقد بدأ بعض الضباط السابقين في الحديث علنًا عن “سوء إدارة الحرب”، بينما يردّ مؤيدو نتنياهو بأن هؤلاء “ينفذون أجندة المعارضة لإسقاط الحكومة”.
هذا التناحر الداخلي يهدد بتآكل هيبة الجيش الإسرائيلي الذي كان يُنظر إليه تاريخيًا كرمز للوحدة الوطنية.
إلى جانب البعد الأمني، هناك انهيار اقتصادي متصاعد يُفاقم حالة الغضب الشعبي.
فقد سجلت البطالة أعلى مستوياتها منذ عام 2020، وتراجعت الاستثمارات الأجنبية بنسبة 27%، بينما ارتفعت أسعار المواد الأساسية بشكل غير مسبوق.
محللون اقتصاديون حذروا من أن استمرار الحرب وغياب الاستقرار السياسي يدفع الشركات إلى نقل أعمالها للخارج، في حين أعلنت بعض الشركات التكنولوجية الكبرى نيتها إغلاق مكاتبها مؤقتًا بسبب “الضبابية الأمنية والسياسية”.
تقول صحيفة “ذا ماركر” الاقتصادية العبرية إن “إسرائيل تدفع اليوم ثمن حرب طويلة ومجتمع منقسم، حيث لا أحد يثق في أحد: لا الشعب يثق بالحكومة، ولا الجيش يثق بالقيادة السياسية.”
وسط هذا المشهد، يبدو بنيامين نتنياهو في أضعف حالاته السياسية منذ سنوات.
فكلما حاول استعادة السيطرة عبر خطاب القوة أو الحديث عن “انتصارات قريبة”، واجهته موجات احتجاج وغضب جديدة.
ويرى مراقبون أن نتنياهو يعيش عزلة متزايدة داخل حكومته، بعد تصاعد الخلافات مع وزير الدفاع ورؤساء الأجهزة الأمنية، الذين يعتبرون أن استمرار الحرب “دون رؤية سياسية” هو انتحار استراتيجي.
في المقابل، يصرّ نتنياهو على المضي قدمًا في عملياته، مؤكدًا أن “إسرائيل لا تعرف التراجع”.
لكن الشارع يبدو أنه لم يعد يصدّق خطابه، خصوصًا بعد أن أصبحت الخسائر البشرية والاقتصادية تتحدث عن نفسها.
في النهاية، تبدو إسرائيل اليوم كدولة تُحارب على جبهتين: جبهة خارجية في غزة، وجبهة داخلية أكثر خطورة في شوارعها وجامعاتها ومؤسساتها.
فبين حكومة ترفض الاعتراف بالأخطاء، وشعب بدأ يفقد الثقة في وعود “الأمن المطلق”، تتحول إسرائيل تدريجيًا من قوة تحاصر الآخرين إلى دولة محاصَرة داخل نفسها.
الاحتجاجات التي بدأت كمطالب محدودة أصبحت الآن صرخة وجودية تسأل: “إلى أين تمضي إسرائيل؟”
ومع تزايد الانقسام وغياب القيادة الموحدة، تبدو الدولة العبرية في طريقها لاكتشاف أن التهديد الحقيقي لم يعد قادمًا من غزة أو لبنان… بل من داخل حدودها نفسها.