كتبت:منى العساسي
إذا كان الفلاسفة قد نظروا إلى العمر بوصفه تجربة وجودية عميقة، كما عند هايدغر الذي رآه انكشافًا على المعنى عبر وعي الموت والحياة، فإن حاضرنا المعاصر يبدو وقد اختزل إلى مجرد ثوان تتحرك، مهام تنجز، وساعات تستنزف. صار الوقت محايدًا، منزوعًا من دفئه ، يفتت أعمارنا إلى وحدات قابلة للقياس لا للمعايشة.
ولعل ما أشار إليه غي ديبور في كتابه مجتمع الاستعراض يكشف هذه المفارقة، الواقع المباشر تراجع أمام سطوة الصور والتمثلات. فالمدى الذي كان يعاش بالتراكم أصبح يعرض في شكل حلقات متتالية قابلة للاستهلاك، مقاطع تشاهد ثم تمحى، أكثر مما هو خبرة داخلية ممتدة. اللحظة الحاضرة تتبدى كمشهد سريع، يسهل توثيقه بينما يصعب أن يعاش بعمق.
إنسان يطارد إيقاعا خارجيا يراه على شاشة، بينما وقته الداخلي يتآكل بصمت. هذا التحول من المعاش إلى المعروض لم يتوقف عند حدود العمل والإنتاج، بل انسحب أيضا على العلاقات الإنسانية. فما كان في الماضي لقاء حيا يتجسد في مشاركة الساعات والانتظار وحتى الصمت، أصبح يدار من خلال صور ورسائل. حضور الآخر تحول إلى صورة ترسل لتأكيد أن الصلة ما تزال قائمة، فقدت الروابط امتدادها الزمني، لم تعد تقوم على تراكم الذكريات المشتركة، وإنما تتناثر بين لقطات متفرقة. الماضي يغدو أرشيفا مصورا، والحاضر ومضات متتابعة، والمستقبل وعدا مؤطرا بشروط العرض والتوثيق، انتهى العمر الذي كان يقوم على التجربة المتواصلة والذكريات الحقيقية.