نادية الصبار – كاتبة من المغرب
هل يمكن لمشروع الإبادة ولطواحين الموت أن تمحو تاريخ شعب بأكمله؟ سؤالٌ يستوقفنا وبشدة أمام ما يحدث في غزة وسائر الأراضي الفلسطينية، حيث لا تكتفي آلة الحرب الإسرائيلية بهدم البيوت فوق رؤوس ساكنيها، بل تتعداه إلى ما هو أعمق وأخطر: استهداف الذاكرة الجماعية، وطمس كل ما يربط الإنسان الفلسطيني بأرضه وجذوره ووجوده، بهوية راسخة لا تقبل الاختزال.
فالحرب الدائرة رحاها لا تحاول مسح الأرض والقضاء على النسل فحسب، بل تسعى لتفكيك الذاكرة ونسف الوعي، كما لو أن الوجود الفلسطيني كمكون هوياتي يجب أن يُنتزع من الذاكرة والتاريخ بل من الوجدان الإنساني.
منذ بداية العدوان الأخير، قُصفت عشرات المساجد التاريخية والكنائس، ونسفت المتاحف والمكتبات عن آخرها، وأحرقت أرشيفات عن آخرها، بعضها يعود لمئات السنين. كما أشارت تقارير إعلامية وأكاديمية إلى أن أكثر من 195 موقعًا ثقافيًا وتاريخيًا تم تدميره، بينما قُتل العشرات من الفنانين والكتّاب والمبدعين، ومنهم من كان يقود الرحلة الأخيرة “توثيق هذه الحرب بالكلمة أو الصورة”.
هذا الاستهداف الممنهج للرموز الثقافية؛ لا يمكن فصله البتة، عن استراتيجية محو الذاكرة، أو ما بات يُعرف بمصطلح “المموريسايد” (memoricide)، وهي جريمة تُصنَّف باعتبارها محاولة لإبادة تاريخية لا تقل فداحة عن الإبادة الجسدية.
وبالنظر إلى تجارب تاريخية مشابهة، تُطلّ ذاكرة الشعوب الأصلية في أمريكا الشمالية شاهدة على مأساة أخرى، حيث عمد الغزاة الأوروبيون، ثم الدولة الأمريكية الحديثة، إلى مسح حضارات الهنود الحمر وتجريدهم من أرضهم ولغتهم وهويتهم، عبر ما سُمّي بمدارس الدمج الثقافي، وسياسات التنصير، والإبادة المنظمة. وعلى الرغم من مرور قرون، فإن أثر تلك السياسات لا يزال يُرى اليوم في نسب الانتحار المرتفعة، وضياع اللغة، والانفصام بين الأجيال.
فهل تسير إسرائيل على نفس النهج لاسيما وأن من قادوا هذه الحملة الهوجاء سابقا في أمريكا، هم نفسهم حماة إسرائيل وداعموها؟ وهل تراهن إسرائيل ومن يحوم في فلكها على الزمن والنسيان لنزع فلسطين من ذاكرة أهلها ومن ذاكرة العالم؟… أنا لهم ذلك!
لعل الخصوصية الفلسطينية حصن منيع يجعل هذا الرهان محفوفًا بالمخاطر، فالهوية الفلسطينية ليست مجرّد علم أو جغرافيا، بل سردية جماعية متماسكة تولدت منذ النكبة، وتعززت من رحم المنفى والمخيمات والمقاومة الرمزية. ويُظهر البحث الميداني في الشتات الفلسطيني، من لبنان إلى أوروبا، أن الأرشيف الشفهي لعب دورًا جوهريًا في حفظ الذاكرة، وأن النساء والجدّات تحديدًا، كنّ حاملات هذا الإرث. ففي غياب المباني والكتب، تبقى الحكاية وتبقى الأغنية والرواية الشفهية، وتبقى صورة الجدّ المُعلّقة على جدار خيمة، رمزًا لذاكرة لا تباد.
وفي مواجهة هذه الحرب على المعنى، تتصدى مبادرات فردية وجماعية لحفظ التراث الفلسطيني رقميًا، سواء عبر أرشفة الصور القديمة، أو توثيق القصص الحية، أو إطلاق متاحف افتراضية على الإنترنت. هذه المقاومة الجديدة لا تحتاج العدة والعتاد بل وعيًا فلسطينيا جماعيا ومن كل المؤمنين بالقضية عبر العالم لتشكيل جبهة مفتوحة ضد محاولات الطمس. كما أن تنامي اهتمام الباحثين الدوليين بقضية “الإبادة الثقافية” في فلسطين يضيف سندًا معنويًا وسياسيًا للحق الفلسطيني في الوجود.
وإذا كان الاحتلال يراهن على تحويل المعاقل الفلسطينية الصامدة إلى ركام ونسيان، فإن التحدي الأكبر هو ألا يتحوّل الفلسطيني ذاته إلى مجرد ضحية صامتة، بل أن يستعيد صوته ليس من أجل البكاء على الأطلال، بل لبناء رواية مضادة، تسرد المأساة دون أن تغرق فيها، وتستحضر الألم، لكن؛ تتجاوزه نحو وعي جديد. فالمعركة من أجل الذاكرة والهوية لا تقل أهمية من المعركة على الأرض.
واستشرافًا، فإننا أمام مفترق طرق، فإما أن تستمر سياسة الإبادة الثقافية في ظل صمت دولي وعجز المنظمات الأممية عن حماية الإرث الإنساني، ما قد يقود إلى فقدان أجيال كاملة من الفلسطينيين لذاكرتهم الجمعية؛ أو أن تنجح جهود المقاومة الرمزية عبر الإعلام والفن والتعليم والمبادرات الرقمية في صد هذا الهجوم وترميم ما يمكن ترميمه من الذاكرة التي لا تموت بموت البشر، بل تُبعث من جديد عندما يُعاد سردها وتُصان بالتواتر.
والسؤال الحقيقي هنا ليس فقط: هل تنجح إسرائيل في طمس التاريخ الفلسطيني؟ بل، إلى متى سيبقى العالم يظل صامتا ويتواطأ، في جريمة لا تستهدف شعبًا فقط، بل تمحو جزءًا من الوجدان الإنساني المشترك؟ فلسطين ليست ضحية جديدة في سرديات المحو، لكنها بالتأكيد الأصعب، لأنها تنبض بشئ لا يقبل المساومة ولا يقاوم بلا هوادة، إنه الدم الفلسطيني يا سادة!، قد يهدر ويباد… ولا تباد فيه الذاكرة.
وأخيراً لا آخراً، يمكن القول إن الممارسات الوحشية لن تمحو روح شعب يصنع من ألمه قصة صمود تروى عبر الأجيال. قد تدمر المباني وتباد الأهالي، وتحرق الكتب، لكن آلة العدوان لن تسلب ذاكرة الأحرار الذين يُعيدون بناء تاريخهم من رماد الألم والدماء. إن معركة الذاكرة الفلسطينية ليست مجرد مقاومة ضد محاولات الطمس، بل هي إعلان حي عن استمرار الإنسان الفلسطيني في رفض النسيان، وحقه في الوجود، وهوية لا تُقهر. فهل يعي العالم خطورة هذه المعركة وهل يملك الجرأة لمساندة هذا الحق الكوني.. حق الشعوب أينما كانت في البقاء والصمود والاستمرار؟!