بقلم: الكاتبة الصحفية دلال ندا
التحنيط هو إحدى أقدم وأبرز الممارسات الثقافية التي اتبعتها الحضارات القديمة للحفاظ على الأجساد بعد الموت. برز هذا الفن خصوصًا في الحضارة المصرية القديمة، لكنه كان موجودًا أيضًا في حضارات أخرى مثل حضارات الإنكا والصين القديمة. كان التحنيط جزءًا لا يتجزأ من العقائد الدينية والفلسفية المتعلقة بالحياة بعد الموت.
أصل التحنيط وأهدافه
ظهر التحنيط لأول مرة في مصر القديمة حوالي 2600 ق.م خلال عصر الأهرامات. كان الهدف الأساسي من التحنيط الحفاظ على الجسد ليتسنى للروح (أو “البا” و”الكا” وفقًا للعقيدة المصرية) التعرف عليه في العالم الآخر. اعتقد المصريون أن البعث بعد الموت يعتمد على بقاء الجسد بحالة سليمة.
مراحل عملية التحنيط
تطورت تقنيات التحنيط عبر الزمن، لكنها بشكل عام تضمنت الخطوات التالية:
إزالة الأعضاء الداخلية:
كان يتم استخراج الأعضاء الداخلية مثل الكبد والرئتين والأمعاء من خلال شق صغير في البطن. تُترك فقط الكلى والقلب أحيانًا، حيث كان القلب يُعتبر مركز الروح والعقل.
تجفيف الجسد:
يُستخدم ملح النطرون لتجفيف الجسد ومنع تحلله. كانت هذه العملية تستغرق حوالي 40 يومًا.
تحنيط الأعضاء:
تُلف الأعضاء المستخرجة وتُحفظ في أوانٍ كانوبية خاصة مزخرفة برموز دينية.
تغطية الجسد بالزيوت والراتنجات:
بعد التجفيف، يتم دهن الجسد بمزيج من الزيوت والراتنجات للحفاظ على الجلد ومنع نمو البكتيريا.
التكفين:
يُلف الجسد بلفائف من الكتان الأبيض، تُرفق أحيانًا بتمائم سحرية للحماية.
التزيين والدفن:
يُوضع الجسد داخل تابوت مزخرف، وغالبًا ما يُدفن مع مقتنيات شخصية لضمان حياة كريمة في العالم الآخر.
أهمية التحنيط في الحضارة المصرية
لم يكن التحنيط مجرد عملية مادية، بل كان يُعتبر طقسًا دينيًا. ارتبطت العملية بآلهة مثل أنوبيس، إله التحنيط، وأوزوريس، إله البعث والحياة الأخرى. كانت الطقوس المصاحبة للتحنيط تُظهر الاحترام للميت وتعكس الإيمان القوي بالحياة بعد الموت.
التحنيط خارج مصر
في حين أن المصريين كانوا الأكثر شهرة في التحنيط، طورت حضارات أخرى تقنيات مشابهة. في بيرو، حضارة الإنكا استخدمت تقنيات تعتمد على المناخ الجاف والبارد لتجفيف الجثث. في الصين، تم اكتشاف مومياوات محفوظة بطريقة كيميائية مذهلة.
التحنيط اليوم
في العصر الحديث، يعد التحنيط موضوعًا للدراسة الأثرية والعلمية. تساعد تقنيات التحنيط القديمة العلماء في فهم تطور الطب والعلوم لدى الحضارات القديمة. كما أن بعض أشكال التحنيط الحديث تُستخدم في حفظ الجثث لغايات جنائزية أو علمية.
التحنيط ليس مجرد ممارسة للحفاظ على الأجساد، بل هو انعكاس لثقافات وعقائد إنسانية معقدة. يُظهر هذا الفن ارتباط الإنسان بالموت ومحاولته لفهم الحياة الأخرى، مما يعكس رغبة البشر الأزلية في الخلود والتواصل مع العوالم الماورائية.