كتب/ المستشار بهاء النجريدى
تُعدّ هجرة العقول أو ما يُعرف بـ”نزيف الأدمغة” إحدى القضايا المعاصرة التي تشغل بال الدول النامية والمتقدمة على حدّ سواء ، ويقصد بها انتقال الكفاءات العلمية والأكاديمية والمهنية من بلدانها الأصلية إلى بلدان أخرى بحثًا عن فرص أفضل ، هذه الظاهرة ليست وليدة العصر، لكنها تعاظمت مع تسارع العولمة وتنامي الحاجة إلى الكفاءات المتخصصة. وهنا يثور التساؤل: هل تُعَدّ هجرة العقول خسارة وطنية محضة، أم أنها قد تتحول إلى جسر يربط الوطن بالعالم؟
== سلبيات هجرة العقول .. فخسارة الكفاءات المحلية ، تعاني منها الدول المصدّرة للعقول من نقص العلماء، الأطباء، المهندسين وأساتذة الجامعات، بما يؤدي إلى تباطؤ مسيرة التنمية وضعف القدرة على الإبداع والابتكار ، كما أنها تؤدي إلى استنزاف الاستثمارات الوطنية ، فكثير من هذه العقول قد درست وتدرّبت في مؤسسات وطنية كلّفت الدولة مبالغ طائلة، ثم تغادر لتوظف مهاراتها في دول أخرى دون أن ينعكس ذلك على وطنها ، والخطر الأكبر هو إضعاف البحث العلمي المحلي ، فتقلّ نسبة الإنتاج العلمي والبحثي في الدول المصدّرة للعقول، الأمر الذي يضعف مكانتها الأكاديمية ويجعلها أكثر تبعية معرفيًا ، هذه الانعكاسات الاجتماعية والنفسية ، تؤدي إلى غياب النخب عن أوطانها ونتيجته ضعف القدوة للشباب، وإلى شعور متزايد بالإحباط لدى من يتطلعون إلى مستقبل أفضل داخل أوطانهم.
== ومن الايجابيات التي قد تحسب لهجرة العقول … كونها تنقل المعرفة والخبرة ، فقد يمكن للمهاجرين أن يعودوا بخبرات جديدة وأفكار مبتكرة، أو أن ينقلوها عبر شبكات التواصل العلمي، فيساهموا في تطوير مجتمعاتهم وهذا ما حدث للعديد من الكفاءات المتخصصة الوطنية عند عودتها لحضن الوطن ، كم أن التحويلات المالية والاستثمارية تشكل للمغتربين مصدرًا مهمًا للتحويلات المالية التي تساهم في دعم الاقتصاد المحلي وفتح مشاريع جديدة ، كما أنها تعزز صورة الوطن عالميًا ، إن وجود أبناء الوطن في مراكز علمية أو مناصب رفيعة بدول أخرى يرفع من سمعة بلدانهم ويخلق فرصًا للتعاون الدولي ، وتعزز من اسم ومكانة الوطن في المحافل الإقليمية والعالمية ، وتشكل جسور تواصل حضاري يساهم بها المهاجرون في بناء شبكات عالمية بين أوطانهم والبلدان المستقبلة المتعافية ، بما يعزز الحوار الثقافي والبحثي بين الوطن الدول .
لا يمكن النظر إلى هجرة العقول باعتبارها شرًا مطلقًا أو خيرًا مطلقًا ، فهي خسارة مؤكدة حين تُترك بلا إدارة، لكنها فرصة واعدة إذا ما تم استثمارها بذكاء ، فالحل يكمن في خلق بيئة جاذبة للعقول داخل الوطن ، من خلال تحسين ظروف البحث العلمي، وتقدير الكفاءات، وتوفير مسارات مهنية مشجعة. وفي الوقت نفسه، يجب بناء سياسات تواصل فعّالة مع المهاجرين للاستفادة من خبراتهم وإنجازاتهم في مختلف المجالات.
إن هجرة العقول ظاهرة معقّدة تحمل في طيّاتها أبعادًا سلبية وإيجابية ، فهي خسارة وطنية إذا نظرنا إلى نزيف الطاقات، لكنها جسر نحو العالم إذا استطعنا تحويلها إلى قوة ناعمة ، تربط الوطن بمصادر العلم والتكنولوجيا في العالم المتقدم فالمستقبل إذن يتوقف على قدرة الدول في تحويل هذه الهجرة من نزيف مؤلم إلى فرصة تنموية .. إن ما عشناه ونراه في الحقيقة إهمال .. عدنا للوطن ولم تستغل خبراتنا ولا قدراتنا ولا ما نملكه من طاقات علمية ومادية ، إن علم إدارة الأوطان تحتاج إلى الخروج من عنق زجاج التفكير المتحجر إلى التفكير المرن الذي له أبعاد !!!! كيف يبنى الوطن … وللحوار بقية..
بهاء النجريدي
أ.ستاذ البحوث القانونية والاعلامية