صدى الأخبار
كتبت .رولا علي سلوم
كاجوال …
عنوان غريب مشوق يفاجئنا به الأديب ” محمد البنا ”
لرواية ” كاجوال “، المعنونة بكلمة إنكليزية غير منتمية للغة الرواية، وهي اللغة العربية…
كاجوال؛ كلمة إنكليزية تعني كلّ لباس غير رسمي، يرتبط اللباس الدارج بالحرص على الراحة الشخصية والفردية . هذا المعنى لكلمة ” كاجوال” يقاربه القارئ بعد انتهائه من قراءة الرواية، والتي انتهج الكاتب فيها فنّ السيرة الذاتية، بعد أن غيّر بعض شروط هذا الفنّ، فخرج بذلك عن المألوف، فمن المعروف أنّ فنّ السيرة الذاتية يُكتب بأسلوبين؛ ضمير المفرد المتكلم ” أنا” ، حيث يتحدث الكاتب عن نفسه ويسرد سيرة حياته، أو يتحدّث بصيغة ” هو ” ضمير المفرد الغائب، فيسرد الكاتب سيرة حياة شخص آخر . وهنا القاصّ ” محمد البنا ” اختار أسلوباً ثالثاً، إذ ضمّنَ روايته أسلوب المفرد المتكلم” أنا “، وأسلوب المفرد الغائب ” هو ” من خلال الحوار بين شخصيات العمل الأدبيّ . فجعل من شخصياته في الرواية – أصدقاءه الحقيقيين في الحياة – محكّماً يُطلق أحكامه وآراءه على شخصية البطل ” الكاتب ” .
تناول الكاتب في روايته ” كاجوال” جملةً من القضايا الفكرية تستحق الوقوف عندها .. وفي رأيي تتغلغل هذه القضايا ضمن علم النفس، الاجتماعي والفردي و.. أولها : موضوع الكبت؛ فهو متزوج بامرأة لاتشاركه حبه للأدب وللكتابة، ولا تقرأ ما يكتبه غالباً، وزواجه بها زواج تقليديّ وليس حباً .
ثانياً : موضوع الغربة : فأولاده يرونه مهندساً فقط، لا سوى ذلك، يسعون لإيجاد عمل له بعد تقاعده من عمله وتجاوزه الستين من عمره .
ثالثاً : موضوع الجنس والحبّ : تلك العلاقات العاطفية المتعددة عبر حياته، والتي كانت تبدأ بالإعجاب بعملٍ أدبيّ أو بكتابات له، وما تلبث أن تتطور إلى علاقة عاطفية في السرير، وإلى قُبل وأشواق وانتظار للتواصل من جديد، وكلّ ذلك في الخفاء بعيداً عن أعين الناس .
رابعاً : التعويض عن النقص : لم يتوانَ الكاتب في الرواية عن متابعة هوايته الأدبية وحبه للكتابة من شعر ونثر .. فهو يحاول التقاط النجوم بيد واحدة .. وذلك يعود – ربما- لأنه يجد في الكتابة متنفسّاً لما يعتمل في داخله من مشاعر وأحاسيس غير قادر على البوح بها .
فهو غالباً ما يظهر بصفة الرجل الكبير في السنّ، الرصين، الواعظ، الهادئ، البسيط، المحكوم على أمره في بيته وبين أفراد عائلته، لكنه يتحول نمراً أو أسداً أو وحشاً عند ممارسته الحبّ مع امرأة عازبة أو متزوجة، بادلته الشعور، وسمحت له بتجاوز الخط الأحمر .
يصوغ لنا ذلك بأسلوب سلس واضحٍ، بعيداً عن الغموض، سوى من تلك المناورات التي يضعنا أمامها في أثناء القراءة، فتارة يكون في الزمن الحاضر، ثم مايلبث أن يعود إلى الماضي البعيد، أو البعيد جداً، وهكذا …الخطف خلفاً يتم بأسلوب رشيق متسلّل من غير أن نشعر به بوضوح .. ويستخدم الصورة البصرية غالباً أمام القارئ، وذلك من خلال اللهجة المصرية المحكية والتي تكاد تغلب على اللغة الفصحى، فيأتينا الشعور دائماً أننا أمام فيلم سينمائي، أو أمام حلقة من حلقات مسلسل مكسيكي نتابعه بشغف و شوق .. ومع أنني لست من أنصار الكتابة باللهجة المحكية العامية في العمل الأدبي، إذ إنني أرى أنها تقلّل من نسبة الحضور، كما أنها تضعف من جمالية الفصحى وقوتها …
القاصّ مناور بارع، لديه حسن التخلص في مواضع كثيرة يضع القارئ أمامها، فهو تارة يكون حاضراً بحواره مع شخصيات عمله، أو مع شخصيات أصدقائه الحقيقيين، وتارة يستعيد شريط الماضي العذب أو المؤلم، ناقلاً إلينا صورته البسيطة الهادئة المتواضعة التي ترافقه دائما والتي لا تقيّدها حدود أو روابط .. في رواية ” كاجوال” آثر الكاتب أن يوصل إلينا فكرة فلسفية رائعة، وهي أنّ وصول الإنسان إلى الكمال هو موتٌ له، وحصوله على كلّ ما يريده إخمادٌ لدرب الطموح والسعي لتحقيق الأفضل من الأهداف في الحياة . وهذا ما حصل في الخاتمة، لقد حقّق الكاتب هدفه في نشر كتابه الذي طالما سعى إليه، وكذلك حصل على عملٍ في شركة أجنبية، وكان هذا الأمر شبه مستحيل لرجل متقاعد ومتقدٌمٍ في السنّ . حقّق الكاتب هدفين عظيمين في الآن نفسه، وأغمض عينيه راحلاً عن هذه الدنيا .. تساوى الموت و الهدف المتحقق، وأن تتوقف عن تحقيق أهدافك بشكل متواصل، يعني أنك وصلتَ للنهاية، للموت .
فهل يستشرف الأديب ” محمد البنا ” هذه الخواتيم لسيرة حياته؟؟؟ أرجو من الله ألا تكون كذلك، وأن يمده الله بالصحة والإبداع الدائمين، ربما هذه الخيالات التي يضمنها الكاتب بين ثنايا صفحات روايته تنفي أن تكون سيرته الذاتية طبق الأصل عن حياته، وكأنه مزج فيها بعض الحقائق الموجودة لديه في الواقع، وأضفى من خياله الثر ما يستشرفه أو يتوقعه، أو ربما يريد ألا يظنّ القارئ أنها سيرته الحقيقية فعلا، بل؛ هي مزج بين الواقع والمتوقع .. وأياً تكن، فقد طرح الكاتب فيها رؤية جديدة على ما سبق و على ما كُتب في كتب السيرة الذاتية، وهذا أسلوب الكاتب البّنا في أنه يجدّد دائما في طروحاته وأفكاره، فكما عَنون روايته باسم حداثي ” كاجوال” رغبة منه أن يشغل فكر القارئ ويجعله يبحث ليعرف دلالة الكلمة، ومن ثم يربط تلك الدلالة بسيرورة الرواية من خلال أحداثها وشخصياتها .. وهذا هدف الكاتب في كل عمل أدبيّ، تقديم الجديد، وربطه بأفكار سابقة، سعياً للوصول إلى فكرة جديدة بأسلوب ملوّن، يعتمد المزج والتماهي لتحقيق هدف سامٍ جميل . كاجوال تدعو كلاً منا أن يكون كما هو، على طبيعته، مرآة نقية صافية، خالية من الضبابية والغموض والتعقيد . هي دعوة لأن نكون صادقين بسيطين عظيمين بما نحمله من أفكار وخيالات .
رولا علي سلوم