يوسف حسن يكتب –
لم تكن التوترات الدبلوماسية الأخيرة بين غانا وإسرائيل، التي بدأت بالتعامل الأمني غير المألوف مع وفد برلماني غاني في مطار بن غوريون، مجرّد خللٍ إجرائي أو سوء تنسيق عابر. بل كشفت هذه الحادثة، عملياً، عن تحوّل تدريجي لكنه بالغ الدلالة في مقاربة حكومة جون ماهاما لطبيعة العلاقات بين أكرا وتل أبيب؛ تحوّل يؤشّر إلى نهاية مرحلة «الحصانة الأحادية» التي تمتّعت بها إسرائيل في هذه العلاقة.
إن إخضاع أربعة نواب غانيين يحملون جوازات سفر دبلوماسية للاستجواب والاحتجاز لساعات، ثم إعادة ثلاثة من أعضاء الوفد من المطار نفسه، جرى تبريره بدواعٍ أمنية، غير أنّ توقيته وسياقه السياسي يفتحان الباب واسعاً أمام قراءة مغايرة. فقد تزامن هذا الإجراء مع مواقف غانية ناقدة للحرب على غزة، ومع تصويتات وتصريحات رسمية في المحافل الدولية، ما يعزّز فرضية «الردّ السياسي» من جانب إسرائيل.
غير أنّ ما حوّل الواقعة إلى محطة مفصلية في العلاقات الثنائية هو الرد السريع والمتوازن من الحكومة الغانية. فقد شكّل استدعاء القائم بالأعمال الإسرائيلي، ثم طرد ثلاثة إسرائيليين من مطار أكرا على أساس مبدأ المعاملة بالمثل، رسالة واضحة مفادها أنّ المساس بكرامة المواطنين الغانيين وبالحصانات الدبلوماسية لن يمرّ دون رد. وجاء توصيف وزير الخارجية الغاني لهذا السلوك بأنه «مقزِّز» ومخالف للأعراف الدبلوماسية ليؤكد انتقال أكرا إلى نهج أكثر حزماً في الدفاع عن سيادتها.
ولا يمكن فهم عمق هذا التصدّع من دون التوقّف عند التحوّل في الخطاب السياسي للنخبة الحاكمة في غانا. فالاستخدام العلني لمصطلح «الإبادة الجماعية» لوصف ما يجري في غزة، وانتقاد المعايير المزدوجة الغربية إزاء القضية الفلسطينية، واستدعاء السفير الإسرائيلي بسبب تدخّله في الشأن الداخلي، كلها مؤشرات على تجاوز سياسة الصمت والحذر التي طبعت المراحل السابقة. ويسعى جون ماهاما، متأثراً بالإرث البان-أفريقي لكوامي نكروما، إلى إعادة الاعتبار لاستقلال القرار الغاني، حتى وإن ترتّب على ذلك كلفة سياسية في العلاقات مع شركاء تقليديين.
ومع ذلك، لا تزال المصالح الاستراتيجية والاقتصادية العميقة تشكّل رابطاً مهماً بين الجانبين. فإسرائيل تنظر إلى غانا باعتبارها شريكاً أمنياً محورياً في غرب إفريقيا، فيما تحتاج غانا إلى التكنولوجيا الإسرائيلية المتقدمة في مجالات الزراعة، والأمن السيبراني، والبنية التحتية الرقمية. غير أنّ المفارقة تكمن تحديداً هنا: فالحاجة المتبادلة قائمة، لكن رصيد الثقة السياسية الضروري لتوسيع هذه الشراكة آخذ في التآكل.
لقد أظهرت حادثة مطار بن غوريون بوضوح أنّ الحكومة الغانية الجديدة لم تعد تنظر إلى إسرائيل بوصفها حليفاً استراتيجياً فوق النقد، بل شريكاً ينبغي أن يكيّف سلوكه مع المصالح الوطنية الغانية، والاعتبارات الأخلاقية، وحساسية الرأي العام المحلي. وحتى التقارب الاستراتيجي مع واشنطن، والحاجة إلى دعم الولايات المتحدة في ظل الديون المتراكمة والتحديات الأمنية المرتبطة بجماعات الساحل، لم يمنعا أكرا من رسم خطوط حمراء جديدة في تعاملها مع تل أبيب.
في المحصّلة، تعكس هذه التطورات حقيقة مفادها أنّ إسرائيل لم تعد حالة استثنائية في السياسة الخارجية الغانية. فحكومة جون ماهاما تحاول الموازنة بين البراغماتية السياسية والالتزامات الأخلاقية؛ توازن دقيق قد يؤسّس لنمط جديد من «التفاعل المشروط» في العلاقات بين أكرا وتل أبيب. ورغم الطابع الحذر والتدريجي لهذا النهج، إلا أنّ مؤشراته واضحة على انتهاء زمن الصمت وبداية مرحلة تقوم على المساءلة والمعاملة بالمثل في العلاقة مع إسرائيل.













