عزت ابو علي – بيروت
منذ سقوط نظام الرئيس السوري السابق بشار الأسد، تشعر إيران بالصفعات المؤلمة التي تتلقاها في الشرق الأوسط، فأطلقت التهديدات يميناً ويساراً في محاولتها للقول بإنها لا تزال تمتلك اليد الطولى في الشرق.
فطهران لم تتقبَّل ما حدث لها في دمشق عندما كسرت أنقرة عامود محورها الفقري وشلتها تماماً، لكن ومن على كرسيها المتحرك هناك سعت إيران لإحداث الفوضى في سوريا وهذا ما كانت تتنبَّه له تركيا جيداً.
الغضب المكتوم بين الطرفين أظهره للعلن وزير الخارجية التركي هاكان فيدان عندما حذَّر إيران بشكل جاد من سياساتها الخارجية المرتبطة بأذرعها المسلحة التي تنطوي على مخاطر كبيرة، وصولاً لتهديدها في حال قامت بدعم قسد بالقول “إذا كنت تسعى إلى إثارة بلد ما من خلال دعم مجموعة معينة هناك، فقد تواجه موقفاً حيث يمكن للبلد المذكور أن يزعجك من خلال دعم مجموعة أخرى في بلدك”.
استدعى البلدان الديبلوماسيين للاحتجاج، لكن تركيا اكتشفت خطة الانقلاب الإيراني مبكراً، مما دفع طهران إلى تقديم موعد المخطط لأكثر من شهرين، فما حصل في الساحل السوري بحسب مصادر كان معداً لتنفيذه بعد شهرين وليس الآن، لكن اليقظة التركية وسرعة التحرك أجهضت المخطط الإيراني للانقلاب على السلطة الجديدة أو فرض دويلة العلويين تحت الأمر الواقع.
أمر ردَّت عليه أنقرة بتحريك قواتها الجوية لضرب مواقع انفصاليي قسد خشية مناصرتهم لفلول الأسد، في وقت دخلت فيه قوات وزارة الدفاع السورية والداخلية وجهاز الأمن العام لتُخمد هذه القوات مساعي فلول الأسد بعد هجماتهم على مواقع عسكرية تابعة للحكومة السورية، ولكن انسحب مع ذلك وقوع بعض المذابح بين المدنيين السوريين، وهذا ما اعترفت به السلطات السورية عندما أشارت إلى أنها ستقوم بمنع أي شخص لا علاقة له بضبط الأمن من التواجد في الساحل السوري وأريافه.
أدَّى اتساع النفوذ الإيراني في العراق، عقب سقوط نظام صدام حسين والبعث العراقي عام 2003، ثم تمدد طهران الواسع في سوريا عقب ثورة 2011، إضافة إلى ازدياد الحضور الإيراني المكثَّف في لبنان، وفي اليمن، إلى تصاعد حدة الصراع الجيو إستراتيجي والجيو سياسي، بين إيران وتركيا، لكن إسقاط نظام بشار الأسد في سوريا، في موازاة انهيار النفوذ السياسي والعسكري لحزب الله اللبناني، وتراجع الميليشيات العراقية والضربات التي تلقاها الحوثي في اليمن، قلبت الموازين ومنحت تركيا مزايا إستراتيجية هائلة على حساب إيران، أدت إلى شعور طهران بالهزيمة أمام أنقرة للمرة الثانية خلال سنوات قليلة، بعد تداعيات الهزيمة الأولى في القوقاز حين سحقت القوات الأذرية المدعومة تركياً قوات أرمينية كانت إيران تمني النفس بانتصارها لكن ذلك لم يحصل واستعادت أذربيجان السيطرة على إقليم ناغورني قره باغ، ثم بسطت سيطرتها تماماً عليه عام 2023.
انتصار منح تركيا ميزات استراتيجية واسعة ومهد لربطها برياً بمناطق آسيا الوسطى، في ظل استكمال إنشاء ممر زنغزور الإستراتيجي، على حساب النفوذ التقليدي الذي كان متوفراً لإيران، والذي تراجع بشدة.
النفوذ التركي في سوريا وجزء من لبنان والعراق وحتى فلسطين كان على حساب إيران، ودور أنقرة في تعزيز البنية الأمنية الجديدة للاتحاد الأوروبي ودورها الأساسي في حل أزمة الحرب بين روسيا وأوكرانيا، كلها أوراق قوة تجتمع في يد أنقرة، التي ستعمل على توظيفها لتعزيز حضورها الإقليمي خاصة في الملف الشرق أوسطي، على العكس من إيران التي تعيش أياماً مريرة مع الرئيس الأميركي، دونالد ترامب، الذي ألمح إلى إمكانية اللجوء للخيار العسكري في التعامل معها، إذا لم يتم التوصل إلى اتفاق بشأن القضايا العالقة، في ظل هشاشة الاقتصاد الإيراني والحصار المفروض عليها وافتقادها لأذرع كانت تعتمد عليها لرفع أسهمها في أية مفاوضات، كل هذا يقود إلى صعوبة صمود إيران طويلاً في لعبة عضّ الأصابع مع تركيا، الأمر الذي سيدفع طهران إلى القبول بسياسة الأمر الواقع، والاعتراف بالمسار الجديد في سوريا، قبل أن تتخلى عن أية تدخلات ربما ستضعها مباشرة في مواجهة مباشرة مع تركيا.
مواجهة كانت إيران هي السباقة لاندلاعها وذلك بسبب السعي لإحداث تغيير ديمغرافي ومذهبي واسع في سوريا، التي تمثل العمق الإستراتيجي لتركيا، وذلك عبر إفراغها من المكون العربي السني، وإحلال المكونين الشيعي والكردي مكانه، كما تعمدت إيران انتهاك اتفاقية خفض التصعيد الموقعة عام 2017، وذلك بقصف المناطق المشمولة بالحماية عبر التنظيمات المسلحة المرتبطة بها، وبالتناوب مع روسيا وقوات النظام السابق، هذا بالإضافة إلى قيام إيران باستقبال المقر العسكري الرئيسي لحزب العمال الكردستاني على أراضيها وتحديداً في منطقة ماكو بالقرب من الحدود التركية قبل أكثر من عام.
نهاية ذلك تجسَّد بهزيمة إيرانية نكراء، فتركيا لن تسمح بعدم استقرار الأوضاع في سوريا مرة أخرى، بالتزامن مع إغلاقها ملف تهديد حزب العمال الكردستاني، لكن الرادع لإيران حتى ذلك الوقت لا يعد كافياً لمنعها من بث الفوضى الخلاقة في المنطقة، في محاولة لحجز مكان لها على طاولة المفاوضات، لذا من الضروري الاستفادة بشكل كبير من العلاقات العربية – التركية الجيدة، وقيام الدول العربية وفي مقدمتها مصر ودول الخليج العربي بالمسارعة في دعم المتغييرات في سوريا ولبنان والعراق واليمن وفلسطين لقطع الطريق على المحاولة الإيرانية الأخيرة لإشعال المنطقة بالصراعات الطائفية والمذهبية وإعادة عقارب الساعة لحوالي 22 عاماً إلى الوراء.