بقلم: *د.كمال عبد الرحمن.*
السيمياء في الأصل هي رسالة تحتاج إلى ثلاثة عناصر ( الدال/ المدلول / الدلالة ) ، و قد تكون على شكل حركة أو صوت أو كتابة أو إشارة ، فما هو الدال؟ ، الدال هو كلمة مثل: (باب) والمدلول هو: تحول هذه الكلمة إلى صورة باب، والدلالة هي: أي نوع من الأبواب ؟ ، و ما هو بالضبط؟ هل هو: ( باب بيت) ، أم: (باب سيارة) ، أم 🙁 باب قلعة) وهكذا، فنلاحظ أن الدال( الباب) كيف جرت عليه تحولات وتغيرات حتى نصل إلى الباب المطلوب في هذا اللفظ أو الكلام، وهناك من يرى غير ذلك من النقاد، وكل يلتزم برأيه.
ونجد في شعر الدكتور علي الدرورة العديد من الدوال ، وبخاصة مفردة ( البخور) التي تدل على عوالم ضاربة في جذور التاريخ ، حيث البخور هو نوع من أنواع الهوية الشخصية التي تمثل وتميز إنسانا عن غيره، يقول الدرورة :
عَبِيْرُكِ الأَخَّاذُ
سَلَبَ عَقْلِي
فَقَبَّلْتُكِ بِجُنُوْنِ الْوَالِهِيْنَ
وَمَالَتِ الدُّنْيَا
وَاهْتَزَّتْ حَوْلِي الأَكْوَانُ
وَلَـمْ أَدْرِ أَنَّ حُبَّكِ:
كَانَ سَبَبُهُ بَخُوْرُكِ الْمُقَدَّسُ
يَا سَيِّدَةَ الْبَخُوْرِ.
نبدأ قبل كل شيء بعتبة العنوان ( بخور الليالي)، فالعنوان نحويا متكون من مبتدأ محذوف(هذا) وخبر (بخور) وهو مضاف و( الليالي) مضاف اليه، وهذا العنوان ، يكاد يفقد هويته الدلالية لأنه جاء ناقص النحوية، وهذا ما يسبب ارباكا في قدرة المتلقي على تحليل القراءة المفهومية والدلالية للعنوان نفسه، فهل بمقدور جملة ناقصة النحوية أن تمنحنا تحليلا كاملا ودلالة شاملة لمعنى العنوان، ربما يكون ذلك صعبا ولكنه ليس مستحيلا، وذلك لأن (العنوان دال ذو جدوى كبيرة في أية محاولة للوصول إلى مضمون الكتابة المندرجة تحته ، وهو في الكتابة الإبداعية مختلف عنه في أية كتابة أخرى، لأنه في الإبداع يحمل ألغازاً و أسراراً وإشارات تظهر وتختفي)، والسؤال هو 🙁 لماذا الليالي وليس الصباحات مثلا)، قد يكون الجواب أن البخور ربما بإمكانه أن يحدث تحولا نفسيا في الأعماق الشخصية لكل متلقي ، فيجد الإنسان في البخور عالما مائزا يتحرك جيئة وذهابا ، بين المعتقد والأسطورة، و إن كان المقصود به هو عالم الشاعر الواقعي ، يقول شاعر البخور علي الدرورة:
فَاحْرِقِي الْبَخُوْرَ كَثِيْرًا
كَيْ تَمِيْلَ بِيَ الدُّنْيَا
وَتَهْتَزَّ الأَكْوَانُ حَوْلِي
وَأَهْتَزُّ مَعَكَ
لَيْلًا وَنَهَارًا
أَحْرِقِي الْبَخُوْرَ
أَحْرِقِيْهِ كَثِيْرًا
فَيَنْتَشِرَ الْمِسْكُ حَوْلَنَا
وَيَنْتَشِرَ الْعَبِيْرُ
وَنَعِيْشُ فِيْهِ سُرُوْرًا
بَعْدَهُ سُرُوْرًا.
يتشظى النص إلى عدد من الدلالات ، فالبخور بصفته الدال على صورة شعرية تشتغل بها حاسة الشم بوضوح ، والليل هو مأوى البخور في ساعات التأمل والألم ، والنهار هو امتداد لذلك الوجع الذي خلّفه الليل بعد أن عجز عن مواكبته واحتوائه ، ويسعى الشاعر من خلال ( الدال/ البخور) أن يأخذنا إلى أجواء مفتوحة ومفعمة بالخيال بين السحر والدهشة، إنها عوالم ضاربة في القدم ، لكنها حدثت متذ عصور وما زالت تحدث حتى الآن ، فالبخور هو العامل المشترك بين عالمين ، عند الشاعر ، إذ يقول :
نَحْرِقُ الْبَخُوْرَ
نَحْرِقُ الْجَاوِيَّ
الأَحْمَرَ، الأَسْوَدَ، الأَصْفَرَ
يَنْبَعِثُ الدُّخُوْنُ
فِيْ السَّوَاحِلِ
فِيْ قِمَمِ الْجِبَالِ
يَا بَخُوْرَ الْجَاوِيِّ
يَا رَوْعَةَ الْعَبَقِ الْقَدِيْمِ
أَيْنَ الْمَبَاخِرِ؟
الَّتِي ابْتَسَمَتْ فَرَحًا فِيْ وُجُوْهِنَا
أَيْنَ الأَيَّامُ
وَاللَّيَالِي
حِيْنَ كَانَ الْجَاوِيُّ يَدُوْرُ
حَوْلَنَا.
وربما تكون الأسئلة حلّا غير ذي قناعة، فيتشظى الكلام على ألسنة الهواجس، وتدور المحاورات الداخلية ليعيد الدرورة تأكيد سؤاله لتلك الصورة و هي قوله:
أَيْنَ الأَيَّامُ؟
وَاللَّيَالِي
حِيْنَ كَانَ الْجَاوِيُّ يَدُوْرُ
حَوْلَنَا.
و من ثنائية الأماني الصعبة العميقة( الأيام والليالي) تبدأ الرحلة نحو( توازن الحياة)، فكم ستستريح الروح في دوران( الجاوي ) في براري الذكريات وتلك العوالم الرائعة ، حيث كان البخور دالا سيميائا على دعة العيش ، و رغد الحياة ، إذ يتفرد الشاعر الدكتور علي الدرورة باستعمال(البخور) دالا سيميائيا، كونه يمثل رمزا يدل على حاسة انسانية نادرا ما استعملها الشعراء وهي ( حاسة الشم) ، وبها يستحضر رؤى وأفكارا وذكريات سطرها الشاعر من خلال التفنن في (الدال/ البخور) من تقديم صورة سيميائية تربط بن الإنسان والبخور الذي بإمكان أن يُفعّل الأجواء الأسطورية ويعيدها إلى صلب الواقع ،
يقول الدرورة شاعر البخور :
بَخُوْرُكِ الْمُقَدَّسُ يُعَطِّرُ الْدُّنْيَا
فَيَمْلَأُ نُفُوسَ الخَلَائِقِ
أُنْسًا وَطِيْبًا
بَخُوْرُكِ، لَيْسَ كَأَيِّ بَخُوْرٍ
فَفِيْ نَجْوَاكِ وَهَمَسَاتُكِ وَمُبْتَغَاكِ
أَتَأَمَّلُ الإبْحَارَ فِيْ عَيْنَيْكِ
وَأَرْسُمُ عَنْبرًا
مِنْ بَيْنِ جَنْبَيْكِ
يَا فَاتِنَتِيْ
مِنْ أَيْنَ هَذَا الْبَخُوْرُ؟
أَهُوَ مِنْ صُنْعِ يَدَيْكِ
أَمْ جَلَبْتِيْهِ مِنْ قُصُوْرِ الْحُوْرِيَّاتِ.
يحيل الشاعر الدرورة البخور إلى مصدر إنساني، عندما تتحول أنفاس الحبيبة إلى نوع نادر من أنواع البخور، فلم تعد هي بحاجة إلى البخور، لأنها صارت مصدرا من مصادر إنتاج البخور ، ولاشك أن ( الدال/ البخور) هي دلالات نصية تحمل أكثر من معنى ، ( فالبخور قد يعني رائحة الحبيب) ، و ( قد يعني أنفاس الورد) و( قد يعني نوعا من الهوية أو الشخصية التي يمتاز بها مكان عن آخر) ،
فيعكس جماليات المكان ، فالبخور صار أداة جمالية لدى الشاعر يستعملها للتعبير عن صورة شعرية أو مشاهد أسطورية، أو حادثة ضاربة في عمق الأساطير ، حيث أن البخور جاء في فجر التاريخ و مازال حضوره طاغيا بكل قداسة عند أغلب الشعوب ، و قظ انتشر في عمق التراث ، وصار هوية للعشاق والشعراء والملوك ، والزهاد والعباد والمتصوفة و في كل المعابد والبيوت ،
وكل من يحمل العشق و الهوى في قلبه فيشير شاعرنا بنشونه و هو يحمل المبخر او البّخّارة:
أَحْمِلُ الْمِبْخَرَ
فَأَنْشُرُ الْبَخُوْرَ
فَنَشْعُرُ بِالنَّشْوَى
وَالْحَنَانِ
يَنْشُرُ الْعَبَقَ
وَنَشْعُرُ بِالدِّفْءِ وَالأَمَانِ
بِرَوْعَةِ الْبَخُوْرِ
مِنْ مَبَاخِرِ الْحُبِّ
يُنْشَرُ السُّرُوْرُ.
لقد تميز الشاعر الدكتور علي الدرورة باستعمال( دال) نادر وعجيب لم يلجأ إليه الشعراء سابقا إلا قليلا جدا ألا وهو( البخور)، و البخور يعطي عدة دلالات، منها ( أنفاس الحبيب العطرة) أو( رائحة الليل الزكية التي تجتمع حولها المخلوقات) ، أو( بث روح الأساطير والسير على خطاها في واقعية سحرية تألقت بها قصائد الدرورة)، وقد نجلى الشاعر في تقديم نماذج ندرائعة من خلال عدة صور شعرية كان أساسها قد بُني من خلال حاسة العشاق ( شم البخور) ، لذا تعمق الشاعر الدكتور علي الدرورة بتميز رائع في تفعيل دال سيميائية متفردة و هي البخور الذي اختاره الشاعر هوية لنصوصه الشعرية الرائية والمائزة.
__________
ناقد ومحلل أدبي.