بقلم : د. حنان بنت عبدالله الغامدي.
الرياض
لم يعد التعليم في عصر التحولات الكبرى مجرد خدمة اجتماعية تقدمها الدولة لمواطنيها، ولا نشاطًا مؤسسيًا يقتصر أثره على سنوات الدراسة، بل أصبح استثمارًا استراتيجيًا طويل الأمد في رأس المال البشري، تُقاس نتائجه بقدرة الإنسان على الإسهام في التنمية، وصناعة القيمة، ومواكبة المتغيرات المتسارعة في عالم قائم على المعرفة والابتكار.
لقد أثبتت التجارب الدولية أن الدول التي حققت قفزات نوعية في التنمية لم تبدأ من المصانع أو الأسواق، بل من المدرسة والجامعة، ومن إعادة تعريف التعليم بوصفه مشروعًا وطنيًا لبناء الإنسان، لا مجرد مسار أكاديمي ينتهي بشهادة. فالتعليم هو البيئة الأولى التي تتشكل فيها أنماط التفكير، وتتبلور القيم، وتُكتسب المهارات التي ترافق الإنسان مدى الحياة.
إن الاستثمار في رأس المال البشري من زاوية تعليمية يبدأ بالسؤال الجوهري: ماذا نريد من التعليم؟ هل نريده ناقلًا للمعرفة، أم مولّدًا لها؟ هل نريده مخرجًا لأفراد يحفظون ما يُملى عليهم، أم صانعًا لعقول قادرة على النقد والتحليل والإبداع؟ إن الإجابة عن هذا السؤال هي التي تحدد شكل السياسات التعليمية، وطبيعة المناهج، ودور المعلم، ونوعية التقويم.
وفي هذا السياق، لم يعد كافيًا التركيز على الكم، كأعداد المدارس أو نسب الالتحاق، بل أصبح التركيز على الجودة والناتج هو المعيار الحقيقي. فجودة التعليم تقاس بمدى امتلاك المتعلم لمهارات التفكير العليا، والقدرة على حل المشكلات، والعمل التعاوني، والتواصل الفعّال، والتعلم الذاتي، وهي مهارات تشكل جوهر رأس المال البشري في القرن الحادي والعشرين.
ويظل المعلم هو المحرك الرئيس لهذا الاستثمار. فالمعلم لم يعد ناقلًا للمعلومة، بل مصممًا للتعلم، وميسرًا للتفكير، وقائدًا تربويًا داخل الفصل. ومن هنا فإن الاستثمار في تأهيل المعلم، وتطويره المهني المستدام، وتمكينه من أدوات التعليم الحديثة، هو استثمار مباشر في جودة رأس المال البشري. فالمعلم المؤهل يصنع أثرًا يتجاوز حدود الحصة الدراسية ليصل إلى بناء شخصية المتعلم واتجاهاته.
كما أن الاستثمار التعليمي في رأس المال البشري يتطلب تحولًا في فلسفة المناهج، من مناهج قائمة على الحفظ والاسترجاع، إلى مناهج تفاعلية مرنة، تربط المعرفة بالحياة، وتدمج بين النظرية والتطبيق، وتُعلي من شأن التعلم القائم على المشاريع، والاستقصاء، والتجريب، والتقنية. فالمتعلم الذي يشارك في إنتاج المعرفة، لا استهلاكها فقط، هو متعلم مؤهل للمستقبل.
وتبرز التقنيات التعليمية والذكاء الاصطناعي اليوم كأدوات داعمة لهذا الاستثمار، لا كبدائل عن الإنسان. فحين تُوظف التقنية بوعي تربوي، فإنها تفتح آفاقًا جديدة للتعلم المخصص، وتدعم الفروق الفردية، وتثري التجربة التعليمية، وتسهم في رفع كفاءة النظام التعليمي. غير أن القيمة الحقيقية للتقنية لا تتحقق إلا حين يقودها معلم واعٍ، ويُحسن دمجها في سياق تعليمي هادف.
ومن زاوية اجتماعية واقتصادية، فإن الاستثمار في التعليم يعزز العدالة التعليمية، ويحد من الفاقد المعرفي، ويُسهم في اكتشاف المواهب ورعايتها، ويؤسس لمجتمع متعلم قادر على التكيف مع متطلبات سوق العمل المتغيرة. فكل طالب يُمكَّن من تعليم نوعي، هو مشروع طاقة بشرية منتجة، وكل فجوة تعليمية تُردم، هي خسارة تُستعاد لصالح الوطن.
وفي المملكة العربية السعودية، يعكس التركيز على التعليم ضمن رؤية 2030 إدراكًا وطنيًا عميقًا بأن تنمية رأس المال البشري تبدأ من الفصل الدراسي. وقد تجسد ذلك في تطوير السياسات التعليمية، وتحسين نواتج التعلم، وربط التعليم بالاقتصاد المعرفي، وتوسيع فرص التطوير المهني للمعلمين، بما يعزز جاهزية الأجيال القادمة للمنافسة عالميًا.
إن العائد الحقيقي للاستثمار في رأس المال البشري عبر التعليم لا يظهر سريعًا في المؤشرات الرقمية، لكنه يتراكم عبر الزمن في صورة إنسان واعٍ، منتج، ومسؤول، يمتلك القدرة على التعلم المستمر، ويشارك بفاعلية في التنمية. فالتعليم الجيد لا يصنع موظفًا فحسب، بل يصنع مواطنًا قادرًا على التفكير، واتخاذ القرار، والمشاركة في صناعة المستقبل.
ختامًا، فإن الرهان على التعليم بوصفه استثمارًا في رأس المال البشري هو رهان على الإنسان، وعلى قدرته على تجاوز التحديات، وصناعة الفرص، وقيادة التغيير. فحين نُحسن بناء العقول، فإننا نؤسس لوطنٍ أكثر قوة، واستدامة، وازدهارًا، لأن الأوطان، في جوهرها، تُبنى بالإنسان أولًا.













